إستراتيجية الحراك
بعد هذا الزمن الكاشف والمكلف، الذي دفعت ثمنه شعوبنا ألماً ودماً وتضحيات بأعزّ الشباب، لا مكان اليوم للغموض أو الحيرة في أي من الملفات التي أصبحت واضحة لا لبس فيها، ولا بدّ من مراجعة آليات العمل المتبناة سابقاً وفق هذه المعطيات التي أصبحت حقائق ثابتة لا جدال فيها أبداً.
أحد أهم وأوضح هذه الحقائق هو أن كلّ الاتفاقيات التي أبرمت مع العدوّ الصهيوني من سيناء2 إلى كامب دافيد ووادي عربة وأوسلو، لم تزده إلا صلفاً وتصميماً على ابتلاع الأرض وانتهاك المقدسات، والأخطر هو أن هذه الاتفاقيات أعطت الانطباع للعالم بأن العرب متجهون إلى حالة سلام مع الكيان، وهو ما دفع عشرات البلدان للتطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي شهدنا آخر حلقاته بزيارة رئيس وزراء الهند لهذا الكيان تحت شعار «لا يمكن أن نكون ملكيين أكثر من الملك»، بل باشرت بوادر التطبيع بين دول خليجية وهذا الكيان بالظهور، مستغلة الانشغال العربي بالمعارك التي اختلقها أعداء فلسطين وأعداء الأمة تحت مسمّيات مختلفة.
الحقيقة الثانية، التي أصبحت جليّة أيضاً، هي أن كل العصابات التي انتحلت أسماء وعناوين تدعي صلتها بالإسلام، هي عصابات اصطنعتها المخابرات الصهيونية بشعارات تكفيرية مجرمة بهدف تدمير الدول العربية والإسلامية من الداخل من جهة، وتشويه صورة الإسلام في ضمائر العالم من جهة أخرى، وأن هذه العصابات تم تدريبها وتسليحها وإرسالها من الكيان الصهيوني وداعميه الغربيين وعملائه من حكام الدول الوهابية، وحتى جرحاهم يجدون ملاذهم في الكيان الصهيوني وداعميه، أي إن المطلوب اليوم هو تبرئة الإسلام من كل الطروحات والممارسات الإجرامية لهذه العصابات الصهيونية.
وفي هذا الصدد لا بد من إظهار الجوانب الإنسانية للإسلام المقاوم الذي يلتقي مع النظم الأخلاقية العالمية والمدافعة فعلاً عن الحريات وحقوق الإنسان والرافضة لاحتلال الأرض والإرادة والكرامة، ومن أجل تحقيق ذلك لا بدّ من الكفّ عن التوجه للحكومات سواء أكانت عربية أم إسلامية أو دولية، والتوجّه إلى ضمائر الشعوب وإخراج قضية فلسطين من منظور عربي إسلامي إلى منظور عالمي، ذلك لأن أمة المليار ونصف المليار، مارست الصمت والقبول بالاستبداد حيال القدس والأقصى، على حين تتمتع الشعوب الحية بضمائر كانت عونا لجنوب إفريقيا في دحر سياسية الفصل العنصري، ويمكن التعويل عليها اليوم وغداً، وما جرى في باريس لسفيرة الكيان الصهيوني خير دليل على أن إيصال الحقائق لهذه الشعوب كفيل بتحريكها وقلب المعادلة التي يتكئ عليها العدوّ الصهيوني من دعم بعض الطغم الحاكمة له في الغرب.
الحقيقة الساطعة الأخرى التي أثبتت عقود من الزمن فشلها هي استرضاء الآخر الغربي، ومحاولة كسب عطفه وتأييده، فلقد أثبت منطق التاريخ أن القوّة هي الأساس وأن العالم الغربي لا يحترم إلا القوي، وأن من لا يمتلك عناصر القوّة لا يمكن أن ينهي احتلالاً أو يصون حقوقاً، وهنا أحيّي شعبنا الفلسطيني الرابض في كل قرية ومدينة رغم جرائم الاحتلال البشعة والمستمرّة بحقه، ولكن من حق هذا الشعب أن يلقى تأييداً مختلفاً يتجاوز الخطابات واللحظات العاطفية ويبني إستراتيجيات متوسطة وبعيدة المدى تنقل القضية الفلسطينية إلى العالمية ولا تتركها رهينة في أيدي حفنة من الزعماء والحكام الجبناء والمتخاذلين، إذ لا بد من العمل في هذا السياق على وقف التطبيع مع الكيان، وإغلاق سفاراته إلى أن يحصل الفلسطينيون على حقوقهم المشروعة.
أمران مشجعان على هذا التوجه الجديد، الأول على المستوى الإقليمي والعربي، والثاني على المستوى الدولي، أما المستوى العربي، فإن التفاهمات التي جرت بين العراق وسورية من أجل التحرك المتزامن والهادف لدحر الإرهاب وفتح الحدود وتحرير حلب والموصل والتوجّه المشترك من أجل إعادة التواصل بين البلدين والشعبين، رغم كل محاولات أعداء هذه الأمة بقطع أوصالها هو أمر مهم، والتنسيق اليوم بين حزب الله والجيش العربي السوري والجيش اللبناني لتحرير جرود عرسال وإعادة الاعتبار للجغرافيا الواحدة والمصلحة المشتركة، رغم أنف المتواطئين والمتخاذلين، هو بداية مهمة لتوجّه يرسي أوراق القوة على الأرض، وهي الوحيدة الواعدة باحترام حقوق المسلمين في الأقصى والقدس وتحرير فلسطين والأرض العربية مستقبلاً.
وعلى المستوى الدولي، فإن اللقاء الروسي الأميركي وإعلان الولايات المتحدة عن توقيف دعم الإرهاب في ما سموه المعارضة السورية، هو بداية تربّع القطب الروسي على عرشه كقطب دوليّ لا يمكن للولايات المتحدة إلا التنسيق معه في هذا الملف، كما في ملفات أخرى قادمة.
هنا أيضاً يمكن أن نقرأ تراجع المعارضات ذات الحواضن الغربية والوهّابية والعثمانية، فهي معارضات لا علاقة لها بمصلحة العراق أو ليبيا أو سوريا أو اليمن، بل هي واجهات مخابراتية نشأت في أحضان أجنبية وبأجندات معادية لطموحات شعوبنا وآمالها، وما استخدامهم اليوم لكلمات «الوطن» و«الوطنية» إلا نفاق فاضح يثير الغثيان، وخاصة أنّ كل ما قامت به هذه المعارضات خدم مصلحة من يستهدف أوطاننا ويعمل على تدميرها.
كلّ حقائق الميدان تثبت بداية إخفاق مشروع «الربيع العربي» الصهيوني وهزيمة القوى المعادية لهذه الأمة، فهل يضع المؤمنون بهذه الأمة إستراتيجية لهذا الحراك لا تتوقف عند استعادة السيادة على الأقصى والقدس فقط بل تهدف إلى استعادة كلّ الحقوق والكرامة العربية والقرار العربي المستقل في صنع مستقبل مشرّف ومشرق للعرب جميعاً؟
بثينة شعبان / شام تايمز