إصدار کتاب يتناول مجزرة سربرينيتسا في رحلة سردية
Jan ٢٠, ٢٠٠٨ ٢٠:٣٠ UTC
وفي روايته "قصة سربرينيتسا " المدينة ذات الطبيعة الجبلية التي تقع شمال شرق البوسنة، يضع الكاتب البوسني "إسنام تاليتش" هذه الرؤيا في بؤرة تفكيره
وفي روايته "قصة سربرينيتسا " المدينة ذات الطبيعة الجبلية التي تقع شمال شرق البوسنة، يضع الكاتب البوسني "إسنام تاليتش" هذه الرؤيا في بؤرة تفكيره، وهو يقدم رواية شهادة تمثل إدانة تاريخية وشاملة للإنسانية التي وقفت مكبلة اليدين تشهد فصول مذبحة سربرينيتسا، ممثلة في الأمم المتحدة وحلف الناتو، وذلك بعد حصار دام لثلاث سنوات. ففي مذبحة سربرينيتسا التي تمت سنة 1995م بيد الصرب، بعد حصار دام لثلاث سنوات تم خلالها ارتكاب كل ما يمكن أن يخطر ببال الشيطان من جرائم في حق هذا الشعب، من تجويع، لإرهاب، لقتل بكل أنواع الأسلحة المسموحة والممنوعة دوليًّا، لاغتصاب، لتسميم الآبار، وتسميم الأطعمة والعصائر (المعونات الدولية)، لدفن الجثث والأحياء في مخلفات مصنع ألمونيوم.. إلخ. "مرجان جوزو" بطل الرواية شاب من سربرينيتسا، يعمل مسّاح أراضي، وإماماً للمسجد، كتب عليه أن يعيش سنوات النكبة 1992 - 1995، ويعانى كل ويلات الحصار. وهو بطل الرواية والراوي الرئيسي الذي تسيطر رؤيته على بعض فصول الرواية؛ ليتخلل سرده للأحداث صوت جده "رحمن بك جوزو" في بعض الفصول.أراد المؤلف أن يقدم تاريخ سربرينيتسا خلال ألفي عام، وأن يقدم تاريخها القريب منذ بداية القرن العشرين عندما تخلى الأتراك عنها لإمبراطورية النمسا والمجر، ثم عندما أصبحت جزءًا من الاتحاد اليوغسلافي، مع التركيز على دمارها الأخير قبيل انتهاء القرن العشرين.فاختار؛ كشاهد عيان على ما يحدث من دمار للمدينة، مرجان جوزو الذي حارب عصابات "التشتنيك" الصرب مدافعًا عن مدينته والذي عانى ويلات الحصار، والهروب من الحصار.وخلال وقوعه تحت الحصار يربط مرجان جوزو بين ما يحدث في لحظته الراهنة، وما حدث لهذه الأرض من دمار مرات سابقة، فسربرينيتسا هي المدينة الرابعة التي تقام على هذه الأرض، وهي المدينة التي قُدّر لها أن تواجه نفس مصير المدن الثلاثة السابقة، أن تدمر بسبب غناها، وخاصة ثرواتها من الفضة، وأن تضطهد بسبب تَقْوى أهلها ودينهم.وبينما يستل جوزو بعض الأخشاب من سقف بيته ليستخدمه في التدفئة تحت الحصار؛ يعثر على مخطوط قديم للمصحف به مذكرات جده "رحمن جوزو" الذي كان جنديا في الحرب العالمية الثانية في قوات إمبراطورية النمسا والمجر، وأسره الروس، ثم هرب منهم إلى شعب البوريات الذي يسكن في المنطقة الجنوبية والوسطى من سيبيريا على طول الساحل الشرقي لبحيرة بايكال، وبعدها يعود إلى سربرينيتسا التي لم يستطع نسيانها، سواء في اللحظات التي كان يقترب فيها من الموت أم المجد.وبهذا فقد بنى الكاتب روايته على مدرج هرمي قاعدته تاريخ سربرينيتسا خلال ألفي عام، مستمدًّا مصادره من المراجع التاريخية، والحكايات الشعبية معًا. وهو هنا يلتقط الأحداث والتواريخ والشخصيات التي تلقي الضوء على فكرته الأساسية حول مدينته الغنية المظلومة، ويمد خيطًا واحدًا يربط به بين الحدث التاريخي والواقع الآني.ينسلخ من قاعدة الهرم السردي تاريخ المدينة في بدايات القرن العشرين، ويعتمد الكاتب هنا على مذكرات "رحمن بك جوزو" التي تحكي قصة عائلة جوزو البوسنية المسلمة التي توارثت العلم الديني والإمامة جيلاً بعد جيل، كعينة ممثلة لعائلات المدينة، وما جرى عليها من تحولات، بعد أن تخلى عنها الأتراك وتركوها لقمة سائغة لعصابات الصرب "التشتنيك" التي انضمت لجيش إمبراطورية النمسا والمجر لتقضي على البوسنيين، ثم انضمت إلى الشيوعيين في الاتحاد اليوغسلافي لنفس السبب، مؤصلاً بذلك لأسلاف نفس العصابات التي قامت بعمليات التطهير العرقي التي كان ضحيتها أكثر من 15 ألف مواطن بوسني من سربرينيتسا خلال ثلاث سنوات، بالإضافة إلى عمليات الاغتصاب المنظمة للنساء البوسنيات لتضييع هوية هذا الشعب وإذلاله.وفي قمة الهرم تأتي سنوات الانهيار، يروي أحداثها شاهد عيان على المذبحة اللاإنسانية التي حدثت في سربرينيتسا، "مرجان جوزو"، وكأن التاريخ يعيد نفسه بحق في تلك المدينة الشهيدة.تؤكد "قصة سربرينيتسا" أن الحرب على البوسنة هي حرب دينية بالأساس، هدفها استئصال آخر صوت للمسلمين في أوروبا، وربما كان هذا هو السبب في الصمت المريب للغرب على ما حدث في البوسنة من مجازر تطهير عرقي، واغتصاب، وتمييع أو تذويب هوية شعب، وتؤكد أيضًا وعي البوسنيين بهذه الحقيقة، حقيقة أن ما يملكونه حقًّا هو دينهم، وهو سبب كراهية الآخرين لهم، ومحاولتهم القضاء عليهم؛ لذلك نجد دور المصحف المحوري في الرواية، ونجد تفكير أشخاص الرواية بصفتهم مسلمين بوسنيين في كل الظروف، كما نجد الاهتمام بالتعليم الديني، والمكانة الرفيعة لإمام المسجد، ونجد كثيرًا من المواقف الصعبة التي يكون حلّها عن طريق قراءة القرآن الكريم، ونجد أن أهم حدث في حياة البوسني هو قيامه برحلة الحج إلى مكة المكرمة. ويبقى تدمير سربرينيتسا أكبر وصمة عار وخزي على ضمير الحضارة الحديثة، وبقعة تلطخ بالدم وجه المدنية المعاصرة، وستبقى مأساة سربرينيتسا سُبّة تمرغ سمعة الحضارة الحديثة في الوحل. إن التضحية بسربرينيتسا وتقديمها كذبيحة أو قربان هي عهد أبدي للبوسنة ولجميع البوسنيين. منذ اللحظة وإلى الأبد، بعدم الاكتفاء بالشعارات الجوفاء مثل "لن ننسى أبدًا" و"لن نغفر أبدًا".إن ما حدث لسربرينيتسا لا يجب أن ينسى بأي حال من الأحوال، ويجب أن نمنع سقوط ستائر النسيان على سربرينيتسا بأي ثمن، وألا يُغفر ما حدث بها.هذه هي صرخة الكاتب الأخيرة التي أطلقها في خاتمة من صفحتين بعد رحلة سردية قدمها في حوالي 450 صفحة من القطع الكبير ترك فيها أبطاله يعرضون الموقف بأنفسهم، هذه هي دعوته: ألا يتم نسيان ما حدث؛ ليبقى الوعي بأسباب حدوثه، ويستمر العمل على عدم تكراره، وألا يموت الوعي بهوية البوسنيين كمسلمين، تلك الهوية التي كانت وستظل أرض المعركة الحقيقة؛ فالآخر يحاول الاستيلاء عليها وتدميرها؛ ولذلك فعلى كل بوسني مسلم المحافظة عليها والتمسك بها بمنتهى الوعي واليقظة لما حوله.